المتنبي، الذي ولد في الكوفة عام 915م، كان شخصية استثنائية تحمل طموحًا يتجاوز كونه شاعرًا عاديًا. كان يتطلع إلى المجد والسلطة، وقد دفعه هذا الطموح إلى التنقل بين بلاطات الحكام والأمراء في محاولة لإيجاد راعٍ يقيم معه علاقة صادقة ومتبادلة الاحترام. غير أنه في كل مرة كان يصطدم بالنفاق والحسد والخيانة.
قصة خيبته مع سيف الدولة الحمداني
إحدى أبرز محطات حياته كانت علاقته بسيف الدولة الحمداني في حلب. كان سيف الدولة أميرًا شجاعًا يحكم حلب ويدافع عن أراضيه ضد البيزنطيين. عندما وصل المتنبي إلى بلاط سيف الدولة، وجد فيه قائدًا ملهمًا يتمتع بصفات القائد الشجاع، فاعتقد أنه وجد أخيرًا الأمير الذي يستحقه، والأمير الذي يمكن أن يكون صديقًا وفيًّا وشريكًا في المجد. كتب المتنبي العديد من القصائد في مدح سيف الدولة ووصف معاركه وشجاعته، وبات مقرّبًا منه.
لكن مع مرور الوقت، ظهرت الخلافات. حاشية سيف الدولة، التي كانت ترى في المتنبي تهديدًا لمكانتها، بدأت تنسج حوله المؤامرات. كانوا يحيكون ضده الدسائس، ويثيرون غيرة سيف الدولة وحسده من قدرات المتنبي وثقته بنفسه وشهرته. وصلت الأمور إلى حد العداء العلني، حتى أن المتنبي تعرض للضرب من بعض خصومه في بلاط سيف الدولة، في حادثة أثرت فيه بشكل عميق. ورغم أن سيف الدولة لم يكن قد أمر بهذا الفعل مباشرة، فإن سكوته على ما حدث جعل المتنبي يدرك أن صداقتهما لم تكن كما توقع، وأن سيف الدولة كان متأثرًا بحاشيته.
من الحماس إلى الخيبة
كان المتنبي في البداية متحمسًا ومليئًا بالطموح، وكتب قصائد مليئة بالإعجاب بسيف الدولة وأحلام العظمة. ولكنه انتهى بخيبة أمل مريرة حين أدرك أن ولاء الناس حوله، حتى أولئك الذين اعتقد أنهم أصدقاؤه، ليس إلا غطاءً للنفاق. وجد المتنبي نفسه وحيدًا، محاطًا بأناس يظهرون الولاء في العلن، لكنهم في الخفاء يحسدونه ويحاولون تشويه صورته.
بعد رحيله عن حلب
بعد أن خاب أمله في سيف الدولة، غادر المتنبي حلب إلى مصر على أمل أن يجد في كافور الإخشيدي راعيًا جديدًا، لكن التجربة كانت أكثر مرارة. كان كافور عبدا سابقا وصل إلى السلطة عبر مسارات معقدة، ولم يكن المتنبي يراه حاكمًا على مستوى طموحاته. ومع ذلك، قبِل المتنبي بالبقاء في مصر على أمل أن ينال منصبًا يليق به، لكن كافور استخدم وعودًا كاذبة ليمسك بالمتنبي ويبقيه إلى جانبه، وحين أدرك المتنبي أنه لن يحصل على شيء من كافور، كتب قصائد لاذعة يهجوه فيها، مثل:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
كان هذا الهجاء ردًا على ما اعتبره خيانة من كافور وتهربًا من وعوده. رحل المتنبي عن مصر وهو يشعر بالمرارة والإحباط، ليتجول في بلاد الشام والعراق دون أن يجد من يحقق طموحاته.
حال المتنبي بعد هذه التجارب
كل هذه التجارب شكلت شخصية المتنبي، وخلقت لديه إحساسًا عميقًا بخيبة الأمل تجاه الناس والمجتمع. أصبح يشكك في نوايا من حوله ويشعر أن الجميع يحيطونه بالنفاق. وهكذا، كتب الأبيات التي تقول:
إذا ما الناس جرّبهم لبيبُ
فإني قد أكلتهم وذاقا
فلم أرَ ودّهم إلا خداعًا
ولم أرَ دينهم إلا نفاقا
عندما قال المتنبي “ولم أرَ دينهم إلا نفاقا”، لم يكن يقصد بالدين هنا المفهوم الديني الذي يرتبط بالعبادات والعقائد، بل استخدم كلمة “الدين” بمعناها الأوسع الذي كان شائعًا في عصره. في اللغة العربية الكلاسيكية، كان لكلمة “دين” معانٍ متعددة، منها “الطبع” أو “السلوك” أو “النهج”، وهو ما يعبر عن طريقة تعامل الشخص مع الآخرين وسلوكه العام.
في ذلك العصر، كان مفهوم الدين يشمل السلوك الشخصي والأخلاقي، وكان ينظر إلى الشخص ذي “الدين” السليم على أنه شخص صادق وذو خلق رفيع. ولكن عندما يقول المتنبي “ولم أر دينهم إلا نفاقا”، فإنه يعبر عن إحباطه من أن أخلاقهم وسلوكهم (دينهم بمعناه الأوسع) يقوم على الخداع.
كانت هذه الأبيات صدى لتجارب مريرة مع النفاق والخداع، وشعورًا عميقًا بالعزلة والاغتراب عن مجتمع لم يجد فيه الصدق ولا الإخلاص.