في مرحلة ما بين الاكتشاف والنضوج، كنت أجلس في مقهى مطل على البحر، عندما أتى العامل ليقدم لنا قائمة الطلبات. اخترت عصير المانجو، ولكن سرعان ما بدأ العامل بإخباري، بحماسة، أن “الاسموزي” أفضل بكثير. أصرّ وبدأ يشرح لي سريعًا، وكأن الاستجابة لنصيحته دليل على التفتح والعقلانية، بينما رفضها يعكس الجهل والانغلاق.
بحكم خجلي واندفاعي في ذلك الوقت، وبحثي المستمر عن إرضاء الآخرين وتجربة الجديد، وافقت على اقتراحه. لكن ما إن نظرت في القائمة حتى اكتشفت أن “الاسموزي” أغلى بفارق ملحوظ عن العصير الذي كنت أرغب فيه. وبعد أن جاء المشروب، اكتشفت أنه لم يعجبني أصلًا. فجأة، انقلبت حالتي من الاستمتاع باللحظة إلى الغرق في أفكار ثقيلة وتساؤلات عميقة. شعرت أن العامل قد استهان بي، وتساءلت: لماذا لم يمنحني نفس الاعتبار الذي منحته له؟ لماذا لم يضع مشاعري وراحتي في الحسبان؟ لماذا فضل المنفعة المادية على الصدق والأمانة؟
كنت حاضرًا بجسدي بين عائلتي، ولكن عقلي كان مشغولًا بتلك التفاصيل الصغيرة التي أخذت تكبر بداخلي. مع مرور الوقت، وبعد دخولي الجيش واحتكاكي الفعلي بالمجتمع، بدأت أرى الأمور من زاوية مختلفة. أدركت حقيقة وأهمية المثال الذي يتحدث عن الرقم ٧: ذلك الرقم الذي يراه شخص يقف أمامه بشكل مختلف تمامًا عمن يقف خلفه.
أصبحت أفهم أن اختلاف الرؤية بين الناس أمر جوهري. هناك اختلاف بين الشرق والغرب، بين العالِم والقائد، بين الإنسان الذي يطلب الحرية والإنسان الذي يبحث عن المنفعة. هذه الاختلافات ليست عشوائية؛ بل هي مبنية على قناعات وقيم قد تبدو لنا صحيحة أو خاطئة، لكنها دائمًا ما تحمل أسبابًا ودوافع مقنعة بالنسبة لمن يحملها.
تعلمت أن الفهم الحقيقي للآخر لا يتحقق إلا إذا تواضعت، ووضعت نفسك مكانه، ونظرت إلى العالم بعينيه. حينها فقط ستكتشف أن وراء كل فعل، مهما بدا ملائكيًا أو شيطانيًا، دافعًا يراه صاحبه مبررًا ومشروعًا. ربما لأن الحياة لم تمنحه فرصة لرؤية جانب آخر، جانب قد يغير قناعاته ويقوده إلى طريق مختلف.
وهكذا أدركت أن الأحكام المسبقة غالبًا ما تنبع من قصور في فهم دوافع الآخرين. وأن التواضع والصبر هما السبيل لفهم العالم بمختلف ألوانه وظلاله.