إن النصوص القرآنية تحمل أعماقًا فلسفية وروحية تستدعي الوقوف عندها بتأمل واستبصار. قول الله تعالى: “وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال”، يُلخص معادلة الوجود بين المطلق الإلهي المحدد بصفات الكمال والإنسان المتصارع مع محدوديته وجدله الذي يعكس ضعفه وحيرته. الله لا يُجادل في ذاته أو قدرته لأنه يمثل الكمال المطلق، بينما يظل الإنسان في جدله الدائم انعكاسًا لتساؤلاته الوجودية وتناقضاته.
كلمة “المحال” تعبر عن القوة المطلقة التي لا تُكسر، والخطة التي تسير وفق حكمة لا مجال فيها لثغرة أو خطأ. إنه التدبير المحكم الذي لا يقبل العبث، والقدرة التي تقلب الموازين بحكمة وعدل. الله يملك السيطرة التامة على كل شيء، قادر على المكر بمن يمكر وإفشال خطط من يتحدى إرادته. هذه القوة المطلقة تجعل الله مصدر الحقيقة التي لا تقبل إنكارًا، لأنه المطلق الذي لا تحده حدود ولا يحيط به فكر بشري.
“دعوة الحق” تعكس النداء الإلهي الذي لا يحمل في طياته سوى الحقيقة التي تتناغم مع نظام الكون وفطرة الإنسان. إنها الدعوة التي تمثل جوهر الحكمة الإلهية والمعرفة بالغيب، وهي ليست فقط تعبيرًا عن عدل الله، بل عن علمه بما وراء الظاهر وما يخفى عن إدراك البشر. كل ذرة في هذا الكون تشهد على هذه الدعوة، إذ هي دعوة الحق من منطلق معرفة شاملة بجميع الأزمنة والأماكن، وبالغيب الذي نجهله، مما يجعل الاستجابة لها تعبيرًا عن تماهي الإنسان مع النظام الكوني الأكبر.
الإنسان في المقابل، بحكم محدوديته، يجد في الجدل وسيلة للبحث عن المعنى، لكنه أحيانًا يقع في فخ التردد والضعف، إذ يسعى باستمرار لفهم ما يتجاوز إدراكه. الجدل يعكس محاولاته لتفسير المجهول وإثبات ذاته، لكنه يظل دائمًا مرتبطًا بحدود تفكيره. وبينما يبني الإنسان نظرياته وأفكاره، يظل الله، المطلق والكامل، خارج نطاق الجدل، لأنه يمثل الحقيقة التي لا تخضع لمحدودية الزمن أو الفكر.
الله ليس مجرد كيان يُمكن تفكيكه أو قياسه بعقولنا. “شدة المحال” تعني أن أي محاولة للجدل حول كماله أو قدرته هي ضرب من العجز الإنساني عن فهم الحقيقة الكاملة. هذا المفهوم يعبر عن قدرة الله على إحباط محاولات البشر لتحديه أو إنكاره، ويجسد عدله المطلق الذي لا يتغير، حتى وإن عجز البشر عن إدراك أبعاده في لحظاتهم الراهنة.
النصوص هنا تدعونا لنتجاوز الجدل العقيم إلى حالة من التسليم الواعي والبحث عن الحقيقة التي تنبض في كل زاوية من زوايا الكون. دعوة الحق هي دعوة للإنسان للنظر إلى ما وراء السطح، ليكتشف ما يعجز عن رؤيته بعينه المجردة، ويصل إلى يقين لا يزعزعه جدل أو شك.