قال الله تعالى في كتابه الكريم:
“لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا” (النساء: 148).
هذه الآية الكريمة تبرز عدل الله وحكمته في التعامل مع الظلم والظالم. فالله لا يحب أن يرفع أحد صوته بالسوء، سواء بالقول أو الفعل، لأن ذلك يؤدي إلى الفساد وانتشار البغضاء بين الناس. ومع ذلك، فقد استثنى الله تعالى حالة واحدة وهي حالة المظلوم. فمن ظُلم وأراد أن يرفع صوته بالشكوى أو أن يرد على من ظلمه بما يساوي ظلمه، فإن ذلك مباح له شرعًا، لأنه يدافع عن حقه الذي سلبه الظالم.
لذلك، هذه الآية تدل على أن مقاومة الظلم حق إنساني فطري، فقد يعاني المظلوم من قهر شديد نتيجة الظلم، وربما يعجز القانون البشري عن إنصافه. لكن الله، بحكمته وعدله، جعل هذا الكون يسير وفق قوانين تضمن العدل حتى إن لم يتحقق في الأرض. فأباح للمظلوم أن يعبر عن مظلمته وأن يرد على ظالمه بما يناسب ذلك الظلم.
ثم قال تعالى بعد ذلك مباشرة:
“إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا” (النساء: 149).
في هذه الآية، يكمل الله توجيهاته في التعامل مع الظلم والأذى، لكنه يوجه المؤمنين إلى منهج أرقى وأسمى، وهو العفو والصفح. فالله سبحانه وتعالى يذكر أن الخير، سواء أُعلن وأُظهر أمام الناس أو أُخفي خالصًا لوجه الله، فإنه مقبول عند الله. ولكن يأتي بعد ذلك توجيه سامٍ للعفو عن الإساءة، رغم أن رد الظلم بمثله مشروع كما في الآية السابقة، فإن العفو أعلى منزلة وأقرب للتقوى.
وهذه الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى، بصفاته العظيمة، عفوٌ قدير، أي أنه يعفو عن عباده رغم قدرته المطلقة على مؤاخذتهم، فكيف بالإنسان الذي لا يملك إلا قدرة محدودة؟ فالله يدعو عباده إلى التحلي بصفة العفو التي هي من صفاته سبحانه وتعالى، مبينًا أن القوة الحقيقية ليست في الانتقام، بل في القدرة على العفو والتجاوز عن الإساءة.
ويمكن أن نستنتج من هاتين الآيتين معًا أن الله وضع ميزانًا دقيقًا في التعامل مع الأذى والظلم: فمن ظُلم، فله أن يجهر بالحق ويرد الظلم، لكن إن استطاع أن يعفو، فهذا أعظم وأقرب لرضا الله، لأنه يعكس صفة العفو التي يحبها الله في عباده. فمن يتسامح ويترك الانتقام لوجه الله، فإن الله يجازيه بأفضل الجزاء، لأنه سبحانه عفوٌ قدير، يعفو عن عباده ويقدر على مكافأتهم بأعظم الجزاء.